أمبادوقليس وفلسفة الطبيعة في رؤية الأشياء
أمبادوقليس فيلسوف يوناني عاش في الفترة قبل سقراط، بمدينته اليونانية الصقلية آغريغنتوم، واستمرت حياته بين عام ٤٨٣-٤٤٢ قبل الميلاد، وكان من فلاسفة الطبيعة وفلسفته كانت المنشأ لنظرية العناصر الأربعة، ويُعتبر آخر فيلسوف إغريقي يدوّن أفكاره وفلسفته كأبيات شعرية.
عرف بشاعريته الفذة وتألقه في الخطابة وباهتماماته السياسية، وهو من أشهر الفلاسفة السابقين لسقراط، واشتهر بإحاطة نفسه بهالة من الأساطير كأن يدعي القيام بالمعجزات كإيقافه انتشار الطاعون.
عاصر نظريات بارميندس وهيراقليطس المتناقضة، فمن جهة كانت نظرية بارميندس القائلة أن لا شيء يتغير، وأن لا شيء يخلق من لا شيء، وما ليس موجودًا لا يمكن له أن يصبح موجودًا، مما جعله غير مؤمن بحواسه ويعتقد أن العقل مصدر كل شيء، والحواس خادعة بمعاينتها تغير الأشياء من حولها، وعلى الطرف الآخر فكانت أفكار هيراقليطس تعتقد أن الحواس تشعر بالمتغيرات، وأن كل شيء يتغير باستمرار، وكل الموجودات المحيطة بنا تتحرك، وما من شيء خالد، مما أثار أزمة فلسفية في المجتمع حينذاك، حتى جاء دور أمبادوقليس ليحرر الفلسفة من مأزقها الذي وقعت فيه، حيث بين أن كلا الرأيين فيهما جانب من الصواب، وخطأ في جوانب أخرى، وأن المشكلة سببها الفكرة القائمة على أن أصل كل شيء هو جوهرًا واحدًا، وفي هذه الحالة تزيد الهوة وتتسع بين ما يقوله لنا العقل من جهة وبين ما نراه بأم أعيننا ونحس به بحواسنا من جهة مقابلة، فالطيور يستحال أن تتحول لهواء على سبيل المثال، ومياه الأنهار العذبة لا تزال عذبة رغم اتصالها بمياه البحار المالحة، وهنا يظهر اتفاقه مع مبدأ بارميندس الذي يقول لا شيء يتحول، لكن على النقيض يراه يصدق على مبدأ هيراقليطس الذي يدعو لضرورة الثقة بالحواس، وكذلك الإيمان بما تبصره أعيننا التي ترى متغيرات الطبيعة باستمرار.
دوّن في فلسفته أنّ ثمة جواهر ثابتة وخالدة، وكل شيء يمكن تفسيره من خلال انضمام هذه الجواهر بعضها إلى بعض، وكذلك بانفصال بعضها عن بعضها الآخر، فلا حدوث ولا فناء إنما كل شيء يرجع إلى اتحاد الجواهر وافتراقها، فقال معبرًا عن هذا المعنى بقوله: "لا يولد الفانون ولا يموت واحدهم موتًا مشؤومًا، ذلك أنه لا يوجد سوى امتزاج للأشياء الممتزجة وافتراقها، وهذا ما يسمى بالولادة والموت".
وتلك الجواهر وأصول الأشياء التي تحدث عنها أمبادوقليس في فلسفته هي التراب والماء والهواء والنار، مكونات الطبيعة الأربعة الثابتة في ذاتها والمتساوية فيما بينها، والتي تنشأ كل الأشياء بانضمام هذه الجواهر أو افتراقها بمقادير مختلفة، فعندما يموت كائن حي فإن هذه العناصر تنفصل عنه دون أي يطرأ عليها أي تحول، فهي باقية أبدًا كما هي.
وتبعًا لأمبادوقليس فإن اختلاف رؤية الأشياء في الطبيعة يعود لكون أعيننا مؤلفة من هذه العناصر الجوهرية الأربعة مثلها مثل أي شيء آخر في الطبيعة، وكل عنصر منها في العين يدرك مثيله في الطبيعة، فالماء في العين يبصر ويرى الماء الذي في الطبيعة وكذلك التراب يرى التراب وبقية العناصر مثل ذلك.
وعندما يتحدث عن الجمال والقبح فإنه يرى وجود قوتين كبيرتين هما قوة المحبة وقوة الكراهية، مهمتهما القيام بجمع العناصر المتشابهة وتفريقهما، وبأن الجواهر الأربعة ينجم عنها ما في العالم من نظام وخير وجمال، فإذا فرقت الكراهية شملها نشأ الاضطراب والشر والقبح، وأنّ الخصومة بين المحبة والكراهية تتبع نظامًا رياضيًا ينبع من علاقة تتوزع بين أربعة أدوار، في الأول تكون السيادة المطلقة لمبدأ المحبة، وفي الدور الثاني وهو الذي يعبر عن الانتقال حيث تنتقل السيادة من المحبة للكراهية، وفي الدور الثالث تكون السيادة المطلقة لمبدأ الكراهية، وفي الدور الرابع يكون الانتقال من جديد من الكراهية للمحبة، وبأنّ قوة المحبة هي التي تفوز في نهاية المطاف، وبهذا فإنّ الضدان يجتمعان في كل واحد.