في عالَم الألوانِ المُتغيِّر، يظهرُ اللّونُ الوَرْديّ كطيفٍ عابرٍ للأزمنةِ والمزاجات، يحملُ في طيَّاتهِ قِصصًا عميقةً عن تحوُّلاتٍ ثقافيّةٍ متنوّعة. واليومَ، قد يرتبطُ الوَرْديُّ بالرّقَّةِ والنّعومة، لكنَّه لم يكن دومًا يَرفرفُ في سماءِ الأنوثَة وحدها؛ بل ارتداهُ الرّجالُ يومًا ما كرمزٍ للقوّةِ والعنفوان.
فكيفَ تحوَّلَ هذا اللّونُ من رايةِ الفتُوَّةِ إلى شعارِ الأنوثَة؟
الوَرْدي: حينَ كانَ لَوْنَ الفُتُوَّة
في عُصورٍ مضتْ، كانَ الوَرْديّ، بوهَجهِ، يرمزُ إلى الشّجاعةِ، يتماهى مع عبَقِ القوّةِ المُتجلّيةِ في الدمِّ والنار. ارتدى الأُمراءُ والفتيانُ الصِّغارُ هذا اللونَ كدَلالةٍ على الرُّجولةِ النّاضِجةِ التي تتأهّبُ لتتفجّرَ في ميدانِ الشّجاعة. أمّا الرّجال، فقد اعتبروهُ امتدادًا لفخرهم، إذ كانَ يُعبِّر عن عُنفوانٍ لا ينكسر. في تلك الحقبة، كانت الألوانُ لغةً غير مكتوبةٍ تكشفُ عن القيمِ المجتمعية؛ وكانَ الورديُّ النّداءَ الصّامتَ للشّبابِ المُقبلينَ على الحياة بكلِّ طاقاتها.
الانعطافُ الكبيرُ في القرنِ العشرين
مع بدايةِ القرنِ العشرين، بدأ الميزانُ الثقافيُّ يميل، لكنَّ الورديَّ لم يفقدْ بعدُ هالته الرُّجولية. في ذلكَ الوقت، أشارتْ بعضُ المجلّات، إلى أنَّ الوَرْديّ لونٌ قويٌّ يناسبُ الفتيان، في حين عُدَّ الأزرقُ أكثر ملاءمةً للفتياتِ بفضلِ رقَّتهِ. كانت تلك المرحلةُ ضبابيّةً، حيث لم يكن هناكَ تصنيفٌ صارمٌ بين الألوانِ وفقَ الجنس.
لكنْ بعدَ الحربِ العالميةِ الثانية في عام 1945، حينَ ارتفعتْ موجةُ الاستهلاكِ والتسويق، بدأ الورديُّ يأخذُ منعطفًا حاسمًا. فقد أدركتِ الشّركاتُ أنَّ توجيهَ الألوانِ نحو جنسٍ معيّنٍ يُعزِّزُ المبيعاتِ ويخلُقُ احتياجاتٍ جديدة.
وهكذا، ولدتِ الفكرةُ بأنَّ الوَرْديَّ هو لونُ البنات، ليُدفعَ هذا اللّون، الذي كانَ رمزًا للفُتُوَّة، نحو عالَمِ الأنوثةِ بسلاسةٍ ولكنْ بحزم.
السّينما تَسكبُ الجاذبيةَ في الوردي
لم تكتفِ الحَملاتُ الإعلانيةُ بذلكَ التحوّل؛ بل مارستِ السّينما، بسُلطتها على الخيالِ الجمعي، سِحرها على الألوان. في خمسينيّاتِ القرنِ الماضي، اختارت نجماتُ هوليوود الوَرْديَّ ليكونَ لونَ الجاذبية والبهجة. أطلَّتْ النجمات بفستانٍ ورديٍّ بَراقٍ، ليُصبِحَ هذا اللونُ أيقونةً للأنوثةِ السّاحرة. باتَ الوَرْديُّ لغةً سرّيّةً تتحدّثُ بها النّساءُ دونَ كلمات، لغةً تنبضُ بالأناقةِ وتفيضُ بالثّقة.
الوَرْدي: من انحصارِ القوالب إلى فضاءِ الحُرّيّة
في العقودِ الأخيرة، ظهرتْ موجةٌ جديدةٌ تعيدُ قراءةَ الألوان بعيدًا عن القيودِ الإجتماعية. فقد برزتْ حركاتٌ تسعى إلى تحطيمِ الصّورِ النمطيةِ المرتبطةِ بالجنس، لتُعيدَ الورديَّ إلى مساحتِه الأصليّة: مساحةٌ إنسانيّةٌ بلا تصنيف. أصبحَ الرّجالُ يرتدونَ الورديَّ بفخرٍ، كتعبيرٍ عن إلغاء الصورة النمطية المعتادة، وعن احتضانِ هويةٍ مرنةٍ لا تخشى التنوع.
من هنا، اكتسبَ الوَرْديُّ بُعدًا جديدًا، لا ينحصرُ في حدودِ الأنوثةِ أو الرُّجولة، بل يُعبّرُ عن إنسانيةٍ شاملة. في مشهدٍ عالميٍّ يحتفي بكسرِ الحدود، باتَ الورديُّ يحملُ رسالةً رمزية: أنّ القوّةَ والحنانَ ليسا حكرًا على جنسٍ دونَ آخر.
خاتمة: الوردي بينَ الماضي والمستقبل
إنَّ التحوُّلَ الثقافيَّ للوَرْدي من رمزٍ للقوّة إلى شعارٍ للأنوثة ثمَّ إلى لونٍ إنسانيٍّ شاملٍ، يعكسُ كيفَ يمكنُ للألوانِ أن تخضعَ لتحوّلاتٍ عميقةٍ على مَرِّ العصور. فالألوانُ ليستْ مجرّدَ أطياف؛ بل هي مرآةٌ لمجتمعاتٍ متغيّرة. وكما تشرقُ الشّمسُ كلّ يومٍ بألوانٍ جديدة، يُعادُ تعريفُ الورديّ ليحملَ معنًى يتجاوزُ تصنيفاتهِ القديمة، ليُصبحَ مساحةً حرّةً للتعبيرِ عن الذّات، بكلِّ ما تحملهُ من قوّةٍ ونعومةٍ في آنٍ واحد.
بهذا، يظلُّ الورديُّ شاهدًا على رحلةٍ ممتدة، يرويها بظلالهِ الزّاهية.